التناسب بين فاتحة المصحف وخاتمته
هذا مبحث لطيف في بابه حريٌّ أن يحتفى به، ولعله يكون فاتحة للطائف من العلم مخبوءة في صدور الذين أوتوا العلم فيبدونها على منهاج التدبر القويم المتحلي بالنظر الثاقب والفهم الصائب المتخلي عن التكلف المذموم والتعسف المشؤوم.
فكم من كلمة أثارت فكرة، وفكرة أورثت تفكراً، وتفكر أحدث تذكراً، وتذكر أثمر خشية ويقيناً وإخباتاً وتسليماً
سيذكر من يخشى، وإنما يتذكر من ينيب، وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين.
قالَ عَطِيَّةُ مُحَمَّد سَالِم (ت: 1420هـ): (وإذا كانَ الشيخُ رَحِمَهُ اللَّهُ قَد نَبَّهَ على مُراعاةِ خاتِمَةِ الْمُصْحَفِ، فإنا لو رَجَعْنا إلى أوَّلِ الْمُصْحَفِ وآخِرِه لوَجَدْنَا رَبْطاً بَدِيعاً؛ إذ تلك الصفاتُ الثلاثُ في سُورَةِ الناسِ مَوجودةٌ في سُورَةِ الفاتِحَةِ، فاتَّفَقَتِ الخاتِمَةُ معَ الفاتِحَةِ في هذا المعنى العظيمِ؛ إذ في الفاتِحَةِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} و(مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، فجاءَتْ صِفةُ
الرُّبوبيَّةِ والْمُلْكِ والأُلُوهِيَّةِ في لَفْظِ الْجَلالةِ.
وتكونُ الخاتِمَةُ الشريفةُ مِن بابِ عَوْدٍ على بَدْءٍ، وأنَّ القرآنَ كلَّه فيما بينَ ذلك شرْحٌ وبيانٌ لتقديرِ هذا المعنى الكبيرِ.
وسيأتي لذلك زيادةُ إيضاحٍ في النهايةِ إنْ شاءَ اللَّهُ تعالى). [تتمة أضواء البيان: 9/358-359]
وقالَ أيضاً: (أمَّا الوِجهتانِ اللتانِ نَوَّهْنَا عنهما، فالأُولَى بينَ السورتيْنِ، وهي مما أَوْرَدَهُ أبو حَيَّانَ؛ إذ في سُورَةِ الفلَقِ قالَ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] ورَبُّ الفَلَقِ تُعَادِلُ قولَه: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]؛ لأنه ما مِن مَوجودٍ في هذا الكونِ إلاَّ وهو مَفلوقٌ عن غيرِه.
ففي الزرْعِ: {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} [الأنعام: 95].
وفي الزمنِ: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ} [الأنعام: 96].
وفي الحيوانات: {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} [النساء: 1].
وفي الْجَماداتِ يُشِيرُ إليه قَوْلُهُ تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ} [الأنبياء: 30-31].
فرَبُّ الفلَقِ تُعَادِلُ ربَّ العالَمِينَ، فقابَلَها في الاستعاذةِ بعُمومِ الْمُستعاذِ منه مِن شَرِّ ما خَلَقَ.
ثم جاءَ ذِكْرُ الْخَاصِّ بعْدَ العامِّ للاهتمامِ به، وهو مِن شَرِّ غاسِقٍ إذا وَقَبَ والنفَّاثاتِ في العُقَدِ وحاسِدٍ إذا حَسَدَ.
فالمُستعاذُ به صِفَةٌ واحدةٌ، والْمُستعاذُ منه عُمومُ ما خَلَقَ جُملةً وتَفصيلاً، بينَما في السُّورَةِ الثانيةِ جاءَ بالْمُستعاذِ به ثلاثَ صفاتٍ، هي صِفاتُ العَظَمَةِ للهِ تعالى: الربُّ والْمَلِكُ والإلهُ.
فقابَلَ الْمُستعاذَ منه، وهو شيءٌ واحدٌ فقط، وهو الوَسواسُ الْخَنَّاسُ، وهذا يَدُلُّ على شِدَّةِ خُطورةِ الْمُستعاذِ منه.
وهو كذلك؛ لأننا لو نَظَرْنَا في واقِعِ الأمْرِ لوَجَدْنَا مَبْعَثَ كلِّ فِتنةٍ ومُنْطَلَقَ كُلِّ شَرٍّ عاجِلاً أو آجِلاً لوَجَدْنَاهُ بسَبَبِ الوَسواسِ الْخَنَّاسِ، وهو مُرْتَبِطٌ بتاريخِ وُجودِ الإنسانِ.
وأوَّلُ جِنايةٍ وَقَعَتْ على الإنسانِ الأَوَّلِ، إنما هي مِن هذا الوَسواسِ الْخَنَّاسِ، وذلك أنَّ اللَّهَ تعالى لَمَّا كَرَّمَ آدَمَ فخَلَقَه بيَدِهِ وأَسْجَدَ الملائكةَ له وأَسْكَنَه الْجَنَّةَ هو وزَوْجُه لا يَجُوعُ فيها ولا يَعْرَى ولا يَظْمَأُ فيها ولا يَضْحَى، يَأكلانِ منها رَغَداً حيثُ ما شاءَا إلاَّ مِن الشجرةِ الْمَمنوعةِ، فوَسْوَسَ إليهما الشيطانُ حتَّى أَكلاَ مِنها ودَلاَّهُمَا بغُرورٍ، حتى أُهْبِطُوا منها جميعاً بعضُهم لبعْضٍ عَدُوٌّ.
وبَعْدَ سُكْنَاهُما الأَرْضَ أَتَى ابْنَيْهِمَا قابيلُ وهابيلُ فلاَحَقَهُما أيضاً بالوَسوسةِ، حتَّى طَوَّعَتْ نفْسُ أحَدِهما قَتْلَ أخِيهِ فأَصْبَحَ مِن النادمينَ.
وهكذا بسَائِرِ الإنسانِ في حياتِه بالوَسوسةِ حتى يُرْبِكَه في الدنيا، ويُهْلِكَهُ في الآخِرَةِ، ولقدِ اتَّخَذَ مِن المرأةِ جِسْراً لكلِّ ما يُريدُ، وها هو يُعِيدُ الكَرَّةَ في نَزْعِ اللِّبَاسِ عن أبَوَيْنَا في الْجَنَّةِ، فيَنْتَزِعُه عنهما في ظِلِّ بيتِ اللَّهِ الحرامِ في طوافِهم قَبْلَ البَعْثَةِ، ولا يَزالُ يُغْوِيهِ، وعن طريقِ المرأةِ في كُلِّ زمانٍ ومكانٍ؛ ليُخْرِجَه عن الاستقامةِ كما أَخْرَجَ أَبَوَيْهِ مِن الْجَنَّةِ.
ولا يَزالُ يُجْلِبُ على الإنسانِ بِخَيْلِه ورَجِلِه بارًّا بقَسَمِه بينَ يَدَيِ اللَّهِ بعِزَّتِه ليُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ.
وإنَّ أَخْطَرَ أبوابِ الفَسادِ في الْمُجْتَمَعَاتِ لَهِيَ عن المالِ أوالدَّمِ أو العِرْضِ، كما في الحديثِ في حَجَّةِ الوَداعِ: ((أَلاَ إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ؛ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا)) إلى آخِرِه.
وهل وُجِدَتْ جِنايةٌ على واحِدٍ منها، إلاَّ مِن تَأثيرِ الوَسواسِ الْخَنَّاسِ؟ اللَّهُمَّ لا.
وهكذا في الآخِرَةِ.
وقد بَيَّنَ تعالَى الموْقِفَ جَلِيًّا في مَقالةِ الشيطانِ البليغةِ الصريحةِ: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم: 22] الآيةَ.
ولقَدْ عَلِمَ عَدُوُّ الْمُسْلِمِينَ أنَّ أَخْطَرَ سِلاحٍ على الإنسانِ هو الشَّكُّ، ولا طَريقَ إليه إلاَّ بالوَسوسةِ، فأَخَذَ عن إبليسَ مُهِمَّتَه ورَاحَ يُوَسْوِسُ للمسْلِمِينَ في دِينِهم وفي دُنْيَاهُم، ويُشَكِّكُهم في قُدْرَتِهم على الحياةِ الكريمةِ مُسْتَقِلِّينَ عنه، ويُشَكِّكُهم في قُدرتِهم على التَّقَدُّمِ والاستقلالِ الحقيقيِّ، بل وفي استطاعتِهم على الإبداعِ والاختراعِ؛ ليَظَلُّوا في فَلَكِه ودائرةِ نُفُوذِه، فيَبْقَى المسلِمُونَ يَدُورُونَ في حَلْقَةٍ مُفْرَغَةٍ يُقَدِّمُونَ رِجْلاً ويُؤَخِّرُونَ أُخْرَى.
والْمُتَشَكِّكُ في نتيجةِ عَمَلٍ لا يُقْدِمُ عليه أبَداً، بل ما يَبْنِيهِ اليومَ يَهْدِمُه غداً، وقد أَعْلَنَ عن هذه النتيجةِ الخطيرةِ رَئيسُ مؤتَمَرِ الْمُسْتَشْرِقينَ في الشرْقِ الأوسَطِ منذُ أكثَرَ مِن ثلاثينَ عاماً، حينَما انْعَقَدَ المؤتمرُ في بيروتَ لعَرْضِ نتائجِ أعمالِهم ودِراسةِ أساليبِ تَبشيرِهم.
فتَشَكَّى الْمُؤْتَمِرُونَ مِن أنَّ لهم زُهاءَ أربعينَ سَنَةً مِن عَمَلِهم الْمُتَوَاصِلِ لم يَستطيعوا أنْ يُنَصِّرُوا مُسْلِماً واحداً، فقالَ رئيسُ الْمُؤْتَمَرِ: إذا لم نَسْتَطِعْ أنْ نُنَصِّرَ مُسْلِماً، ولكن استَطَعْنَا أنْ نُوجِدَ ذَبْذَبَةً في الرأيِ فقد نَجَحْنَا في عَمَلِنا.
وهكذا مَنْهَجُ العدُوِّ؛ تَشكيكٌ في قضايا الإسلامِ ليُوجِدَ ذَبذبةً في عَقيدةِ الْمُسْلِمينَ، فعنْ طريقِ الْمِيراثِ تارَةً، وعن طريقِ تَعَدُّدِ الزوجاتِ أُخْرَى، وعن دوافعِ القتالِ، وعن استرقاقِ الرَّقِيقِ، وعن وعن.
حتى وُجِدَ مِن أبناءِ الْمُسْلِمينَ مَن يَتَخَطَّى حُدودَ الشكِّ إلى التصديقِ، وأَخَذَ يَدْعُو إلى ما يَدْعُو إليه العَدُوُّ، وما ذاك كُلُّه إلاَّ حَصَادُ ونتائجُ الوَسواسِ الْخَنَّاسِ.
فلا غَرْوَ إذنْ أنْ تُجْمَعَ الصفاتُ الْجَليلةُ الثلاثُ: ربُّ الناسِ، مَلِكُ الناسِ، إِلَهُ الناسِ.
هذه وِجهةُ النظَرِ الأُولَى بينَ سُورَتَيِ الفَلَقِ والناسِ.
أمَّا الوِجهةُ الثانيةُ وهي بينَ سُورَةِ الناسِ ونَسَقِ الْمُصْحَفِ الشريفِ بقَوْلِه تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ (1) الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 1-7].
وفي هذه البدايةِ الكريمةِ بَثُّ الطُّمأنينةِ في القلْبِ الْمُعَبَّرِ عنها بالْحَمْدِ؛ عُنوانِ الرِّضَا والسعادةِ والإقرارِ للهِ بالرُّبوبيَّةِ، ثم الإيمانِ بالبعْثِ والإقرارِ للهِ بِمِلْكِ يومِ الدِّينِ، ثم الالتزامِ بالعِبادةِ للهِ وَحْدَه والالتجاءِ إليه مُستعيناً به، مُستهدياً الصراطَ المستقيمَ، سائلاً صُحْبَةَ الذين أَنْعَمَ عليهم.
ثم يأتي بعدَها مباشَرَةً في أوَّلِ سُورَةِ البَقرةِ: {ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]؛ أي: إنَّ الْهُدَى الذي تَنْشُدُه إلى الصراطِ المستقيمِ فهو في هذا الكتابِ لا رَيْبَ فيه، ثم بَيَّنَ الْمُتَّقِينَ الذينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عليهم بقولِه: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 3-4].
ومَرَّةً أُخْرَى للتأكيدِ أولئكَ لا سِوَاهُم على هُدًى مِن رَبِّكَ وأولئكَ هم الْمُفْلِحُونَ.
ثم تَتَرَسَّلُ السُّورَةُ في تقسيمِ الناسِ إلى الأقسامِ الثلاثةِ: مؤمنينَ وكافرينَ ومُذَبْذَبِينَ بينَ بينَ، وهم الْمُنافِقونَ.
ثم يأتي النداءُ الصريحُ، وهو أوَّلُ نداءٍ في الْمُصْحَفِ لعُمومِ الناسِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] ويُقيمُ البراهينَ على استحقاقِه للعِبادةِ، وعلى إمكانِ البَعْثِ بقولِه: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21-22].
وبعدَ تقريرِ الأصْلِ، وهي العقيدةُ، تَمْضِي السُّورَةُ في ذِكْرِ فُروعِ الإسلامِ، فتَشْتَمِلُ على أركانِ الإسلامِ كلِّها وعلى كثيرٍ مِن مَسائلِ الْمُعَامَلاتِ والْجِهادِ، وقَلَّ بابٌ مِن أبوابِ الفِقْهِ إلاَّ وله ذِكْرٌ في هذه السُّورَةِ، ويأتي ما بعدَها مُبَيِّناً لِمَا أُجْمِلَ فيها أو لِمَا يُذْكَرُ ضِمْنَها، وهكذا حتى يَنْتَهِيَ القرآنُ بكَمَالِ الشريعةِ وتَمَامِ الدِّينِ.
ولِمَا جاءَ في وَصْفِ الْمُتَّقِينَ الْمُهْتَدِينَ في أوَّلِ الْمُصْحَفِ أنهم يُؤْمِنُونَ بالغَيْبِ، ومنه الإيمانُ باليومِ الآخِرِ وما فيه مِن حِسابٍ وعِقابٍ وثوابٍ، أمورُ الغَيْبِ تَستلزِمُ اليَقينَ لتَرَتُّبِ الجزاءِ عليه ثَواباً أو عِقَاباً.
والثوابُ والعقابُ هما نَتيجةُ الفِعْلِ والترْكِ.
والفعْلُ والتَّرْكُ: هما مَنَاطُ التكليفِ؛ لأنَّ الإنسانَ يَمْتَثِلُ الأمْرَ رَجاءَ الثوابِ، ويَكُفُّ عن مُتَعَلِّقِ النهْيِ مَخَافَةَ العِقابِ.
فلَكَأَنَّ نَسَقَ الْمُصْحَفِ الشريفِ يُشيرُ إلى ضَرورةِ ما يَجِبُ الانتباهُ إليه، مِن أنَّ القرآنَ بَدَأَ بالْحَمْدِ ثَناءً على اللَّهِ بما أَنْعَمَ على الإنسانِ بإنزالِه، وإرسالِ الرسولِ صاحبِه به، ثم نَقَلَه مِن عالَمِ الدنيا إلى عالَمِ الآخِرَةِ، وهو الأَعْظَمُ قَدْراً وخَطَراً، ثم رَسَمَ له الطريقَ الذي سَلَكَه الْمُهْتَدُونَ أهْلُ الإنعامِ والرِّضَا، ثم أَوْقَفَه عليه ليَسْلُكَ سبيلَهم.
وهكذا إلى أنْ جاءَ به بعْدَ كمالِ البيانِ والإرشادِ والْهِدايةِ، جاءَ به إلى نِهايةِ هذا الصراطِ المستقيمِ، فاسْتَوْقَفَهُ ليقولَ له: إذا اطْمَأْنَنْتَ لهذا الدِّينِ، وآمَنْتَ باللَّهِ ربِّ العالَمِينَ، واعْتَقَدْتَ مَجِيءَ يَوْمِ الدِّينِ، وعَرَفْتَ طريقَ الْمُهْتَدينَ، ورأيتَ أقسامَ الناسِ الثلاثَةَ: مُؤمنينَ وكافرينَ ومُنافقينَ، ونِهايةَ كلٍّ منهم، فالْزَمْ هذا الكتابَ وسِرْ على هذا الصراطِ، ورَافِقْ أهلَ الإنعامِ، وجانِبِ المغضوبَ عليهم والضالِّينَ، واحْذَرْ مِن مَسْلَكِ المنافقينَ الْمُتَشَكِّكِينَ، وحاذِرْ كُلَّ الْحَذَرِ مِن مُوجِبِ ذلك كلِّه، وهو الوَسْوَاسُ الْخَنَّاسُ، أنْ يُشَكِّكَ في مُتَعَلَّقَاتِ الإيمانِ أو في استواءِ طَرِيقِكَ واستقامتِه، أو في عِصْمَةِ كتابِكَ وكمالِه، وكُنْ على يَقينٍ مِمَّا أنتَ عليه، ولا تَنْسَ خَطَرَه على أبَوَيْكَ مِن قَبْلُ، إذ هما في الْجَنَّةِ دارِ السلامِ ولم يَسْلَمَا منه ودَلاَّهما بغُرُورٍ، فحاذِرْ منه ولُذْ بِي كلَّمَا ألَمَّ بكَ أو مَسَّكَ طائفٌ منه، وكُنْ كسَلَفِكَ الصالِحِ إذا مَسَّهُمْ طائفٌ مِن الشيطانِ تَذَكَّرُوا فإذا هُمْ مُبْصِرونَ.
وقد عَلِمْتَ عَداوتَه لكَ مِن بَعْدُ، وعداوتُه ناشئةٌ عن الْحَسَدِ.
ولَكَأنَّ ارتباطَ السورتيْنِ لَيُشِيرُ إلى مَنْشَأِ تلكَ العَداوةِ وارتباطِها بِهَا التحذيرِ؛ إذ في الأُولَى: ومِن شَرِّ حاسِدٍ إذا حَسَدَ، فحَسَدَ الشيطانُ آدَمَ على إكرامِ اللَّهِ إيَّاه كما أَسْلَفْنَا.
والعدُوُّ الحاسِدُ لا يُرْضِيهِ إلاَّ زَوَالُ النِّعمةِ عن المحسودِ، ولَئِنْ كانَتْ توبةُ آدَمَ هي سَبيلَ نَجَاتِه؛ كما في قَوْلِه تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37].
فنجاتُكَ أيضاً في كَلِمَاتٍ تَستعِيذُ بها مِن عَدُوِّكَ برَبِّ الناسِ مَلِكِ الناسِ إلهِ الناسِ؛ لأنَّ الربَّ هو الذي يَرْحَمُ عِبادَه، ومَلِكَ الناسِ هو الذي يَحْمِيهِم ويَحْفَظُهم ويَحْرُسُهم، وإِلَهَ الناسِ الذي يَتَأَلَّهُونَ إليه ويَتَضَرَّعُونَ ويَلُوذُونَ به سُبحانَه). [تتمة أضواء البيان: 9/364-368]
قَالَ بُرْهَانُ الدِّينِ إِبْرَاهِيمُ بنُ عُمَرَ البِِقَاعِيُّ (ت: 885هـ) في تفسير سورة الناس: (مَقْصُودُهَا الاعتصامُ بالإِلَهِ الحقِّ مِنْ شَرِّ الخلقِ الباطنِ، وَاسْمُهَا دالٌّ على ذلكَ؛ لأنَّ الإِنسانَ مَطْبُوعٌ على الشَّرِّ، وَأَكْثَرُ شَرِّهِ بالمَكْرِ وَالخِدَاعِ، وَأَحْسَنُ مِنْ هذا أنَّها للاستعاذةِ مِنَ الشَّرِّ البَاطِنِ المَأْنُوسِ بهِ المُسْتَرْوَحِ إِليهِ، فَإِنَّ الوسوسةَ لا تَكُونُ إِلاَّ بِمَا يُشْتَهَى، وَالناسُ مُشْتَقٌّ مِنَ الأَنَسِ فَإِنَّ أَصْلَهُ أُنَاسٌ، وَهوَ أيضاً اضْطِرَابُ الباطنِ المُشِيرُ إِليهِ الاشتقاقُ مِنَ النَّوْسِ.
فَطَابَقَ حينئذٍ الاسمُ المُسَمَّى، وَمَقْصُودُ هذهِ السورةِ مَعْلُولٌ لمقصودِ الفاتحةِ الذي هوَ المُرَاقَبَةُ، وَهيَ شَامِلَةٌ لجميعِ عُلُومِ القرآنِ التي هيَ مُصَادَقَةُ اللَّهِ وَمُعَادَاةُ الشيطانِ بِبَرَاعَةِ الختامِ وَفَذْلَكَةِ النِّظَامِ، كَمَا أنَّ الفاتحةَ شَامِلَةٌ لذلكَ؛ لأنَّها بَرَاعَةُ الاستهلالِ وَرِعَايَةُ الجلالِ وَالجمالِ، فقد اتَّصَلَ الآخرُ بالأوَّلِ اتِّصَالَ العِلَّةِ بالمعلولِ وَالدليلِ بالمدلولِ وَالمثلِ بالمَمْثُولِ، وَاللَّهُ المَسْؤُولُ في تَيْسِيرِ السُّؤْلِ وَتَحْقِيقِ المَأْمُولِ، فإِنَّهُ الجَوَادُ ذو الطَّوْلِ، وَبهِ يُسْتَعَانُ، وَعليهِ التُّكْلانُ). [نظم الدرر: 8/611]
هذا مبحث لطيف في بابه حريٌّ أن يحتفى به، ولعله يكون فاتحة للطائف من العلم مخبوءة في صدور الذين أوتوا العلم فيبدونها على منهاج التدبر القويم المتحلي بالنظر الثاقب والفهم الصائب المتخلي عن التكلف المذموم والتعسف المشؤوم.
فكم من كلمة أثارت فكرة، وفكرة أورثت تفكراً، وتفكر أحدث تذكراً، وتذكر أثمر خشية ويقيناً وإخباتاً وتسليماً
سيذكر من يخشى، وإنما يتذكر من ينيب، وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين.
قالَ عَطِيَّةُ مُحَمَّد سَالِم (ت: 1420هـ): (وإذا كانَ الشيخُ رَحِمَهُ اللَّهُ قَد نَبَّهَ على مُراعاةِ خاتِمَةِ الْمُصْحَفِ، فإنا لو رَجَعْنا إلى أوَّلِ الْمُصْحَفِ وآخِرِه لوَجَدْنَا رَبْطاً بَدِيعاً؛ إذ تلك الصفاتُ الثلاثُ في سُورَةِ الناسِ مَوجودةٌ في سُورَةِ الفاتِحَةِ، فاتَّفَقَتِ الخاتِمَةُ معَ الفاتِحَةِ في هذا المعنى العظيمِ؛ إذ في الفاتِحَةِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} و(مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، فجاءَتْ صِفةُ
الرُّبوبيَّةِ والْمُلْكِ والأُلُوهِيَّةِ في لَفْظِ الْجَلالةِ.
وتكونُ الخاتِمَةُ الشريفةُ مِن بابِ عَوْدٍ على بَدْءٍ، وأنَّ القرآنَ كلَّه فيما بينَ ذلك شرْحٌ وبيانٌ لتقديرِ هذا المعنى الكبيرِ.
وسيأتي لذلك زيادةُ إيضاحٍ في النهايةِ إنْ شاءَ اللَّهُ تعالى). [تتمة أضواء البيان: 9/358-359]
وقالَ أيضاً: (أمَّا الوِجهتانِ اللتانِ نَوَّهْنَا عنهما، فالأُولَى بينَ السورتيْنِ، وهي مما أَوْرَدَهُ أبو حَيَّانَ؛ إذ في سُورَةِ الفلَقِ قالَ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] ورَبُّ الفَلَقِ تُعَادِلُ قولَه: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]؛ لأنه ما مِن مَوجودٍ في هذا الكونِ إلاَّ وهو مَفلوقٌ عن غيرِه.
ففي الزرْعِ: {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} [الأنعام: 95].
وفي الزمنِ: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ} [الأنعام: 96].
وفي الحيوانات: {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} [النساء: 1].
وفي الْجَماداتِ يُشِيرُ إليه قَوْلُهُ تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ} [الأنبياء: 30-31].
فرَبُّ الفلَقِ تُعَادِلُ ربَّ العالَمِينَ، فقابَلَها في الاستعاذةِ بعُمومِ الْمُستعاذِ منه مِن شَرِّ ما خَلَقَ.
ثم جاءَ ذِكْرُ الْخَاصِّ بعْدَ العامِّ للاهتمامِ به، وهو مِن شَرِّ غاسِقٍ إذا وَقَبَ والنفَّاثاتِ في العُقَدِ وحاسِدٍ إذا حَسَدَ.
فالمُستعاذُ به صِفَةٌ واحدةٌ، والْمُستعاذُ منه عُمومُ ما خَلَقَ جُملةً وتَفصيلاً، بينَما في السُّورَةِ الثانيةِ جاءَ بالْمُستعاذِ به ثلاثَ صفاتٍ، هي صِفاتُ العَظَمَةِ للهِ تعالى: الربُّ والْمَلِكُ والإلهُ.
فقابَلَ الْمُستعاذَ منه، وهو شيءٌ واحدٌ فقط، وهو الوَسواسُ الْخَنَّاسُ، وهذا يَدُلُّ على شِدَّةِ خُطورةِ الْمُستعاذِ منه.
وهو كذلك؛ لأننا لو نَظَرْنَا في واقِعِ الأمْرِ لوَجَدْنَا مَبْعَثَ كلِّ فِتنةٍ ومُنْطَلَقَ كُلِّ شَرٍّ عاجِلاً أو آجِلاً لوَجَدْنَاهُ بسَبَبِ الوَسواسِ الْخَنَّاسِ، وهو مُرْتَبِطٌ بتاريخِ وُجودِ الإنسانِ.
وأوَّلُ جِنايةٍ وَقَعَتْ على الإنسانِ الأَوَّلِ، إنما هي مِن هذا الوَسواسِ الْخَنَّاسِ، وذلك أنَّ اللَّهَ تعالى لَمَّا كَرَّمَ آدَمَ فخَلَقَه بيَدِهِ وأَسْجَدَ الملائكةَ له وأَسْكَنَه الْجَنَّةَ هو وزَوْجُه لا يَجُوعُ فيها ولا يَعْرَى ولا يَظْمَأُ فيها ولا يَضْحَى، يَأكلانِ منها رَغَداً حيثُ ما شاءَا إلاَّ مِن الشجرةِ الْمَمنوعةِ، فوَسْوَسَ إليهما الشيطانُ حتَّى أَكلاَ مِنها ودَلاَّهُمَا بغُرورٍ، حتى أُهْبِطُوا منها جميعاً بعضُهم لبعْضٍ عَدُوٌّ.
وبَعْدَ سُكْنَاهُما الأَرْضَ أَتَى ابْنَيْهِمَا قابيلُ وهابيلُ فلاَحَقَهُما أيضاً بالوَسوسةِ، حتَّى طَوَّعَتْ نفْسُ أحَدِهما قَتْلَ أخِيهِ فأَصْبَحَ مِن النادمينَ.
وهكذا بسَائِرِ الإنسانِ في حياتِه بالوَسوسةِ حتى يُرْبِكَه في الدنيا، ويُهْلِكَهُ في الآخِرَةِ، ولقدِ اتَّخَذَ مِن المرأةِ جِسْراً لكلِّ ما يُريدُ، وها هو يُعِيدُ الكَرَّةَ في نَزْعِ اللِّبَاسِ عن أبَوَيْنَا في الْجَنَّةِ، فيَنْتَزِعُه عنهما في ظِلِّ بيتِ اللَّهِ الحرامِ في طوافِهم قَبْلَ البَعْثَةِ، ولا يَزالُ يُغْوِيهِ، وعن طريقِ المرأةِ في كُلِّ زمانٍ ومكانٍ؛ ليُخْرِجَه عن الاستقامةِ كما أَخْرَجَ أَبَوَيْهِ مِن الْجَنَّةِ.
ولا يَزالُ يُجْلِبُ على الإنسانِ بِخَيْلِه ورَجِلِه بارًّا بقَسَمِه بينَ يَدَيِ اللَّهِ بعِزَّتِه ليُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ.
وإنَّ أَخْطَرَ أبوابِ الفَسادِ في الْمُجْتَمَعَاتِ لَهِيَ عن المالِ أوالدَّمِ أو العِرْضِ، كما في الحديثِ في حَجَّةِ الوَداعِ: ((أَلاَ إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ؛ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا)) إلى آخِرِه.
وهل وُجِدَتْ جِنايةٌ على واحِدٍ منها، إلاَّ مِن تَأثيرِ الوَسواسِ الْخَنَّاسِ؟ اللَّهُمَّ لا.
وهكذا في الآخِرَةِ.
وقد بَيَّنَ تعالَى الموْقِفَ جَلِيًّا في مَقالةِ الشيطانِ البليغةِ الصريحةِ: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم: 22] الآيةَ.
ولقَدْ عَلِمَ عَدُوُّ الْمُسْلِمِينَ أنَّ أَخْطَرَ سِلاحٍ على الإنسانِ هو الشَّكُّ، ولا طَريقَ إليه إلاَّ بالوَسوسةِ، فأَخَذَ عن إبليسَ مُهِمَّتَه ورَاحَ يُوَسْوِسُ للمسْلِمِينَ في دِينِهم وفي دُنْيَاهُم، ويُشَكِّكُهم في قُدْرَتِهم على الحياةِ الكريمةِ مُسْتَقِلِّينَ عنه، ويُشَكِّكُهم في قُدرتِهم على التَّقَدُّمِ والاستقلالِ الحقيقيِّ، بل وفي استطاعتِهم على الإبداعِ والاختراعِ؛ ليَظَلُّوا في فَلَكِه ودائرةِ نُفُوذِه، فيَبْقَى المسلِمُونَ يَدُورُونَ في حَلْقَةٍ مُفْرَغَةٍ يُقَدِّمُونَ رِجْلاً ويُؤَخِّرُونَ أُخْرَى.
والْمُتَشَكِّكُ في نتيجةِ عَمَلٍ لا يُقْدِمُ عليه أبَداً، بل ما يَبْنِيهِ اليومَ يَهْدِمُه غداً، وقد أَعْلَنَ عن هذه النتيجةِ الخطيرةِ رَئيسُ مؤتَمَرِ الْمُسْتَشْرِقينَ في الشرْقِ الأوسَطِ منذُ أكثَرَ مِن ثلاثينَ عاماً، حينَما انْعَقَدَ المؤتمرُ في بيروتَ لعَرْضِ نتائجِ أعمالِهم ودِراسةِ أساليبِ تَبشيرِهم.
فتَشَكَّى الْمُؤْتَمِرُونَ مِن أنَّ لهم زُهاءَ أربعينَ سَنَةً مِن عَمَلِهم الْمُتَوَاصِلِ لم يَستطيعوا أنْ يُنَصِّرُوا مُسْلِماً واحداً، فقالَ رئيسُ الْمُؤْتَمَرِ: إذا لم نَسْتَطِعْ أنْ نُنَصِّرَ مُسْلِماً، ولكن استَطَعْنَا أنْ نُوجِدَ ذَبْذَبَةً في الرأيِ فقد نَجَحْنَا في عَمَلِنا.
وهكذا مَنْهَجُ العدُوِّ؛ تَشكيكٌ في قضايا الإسلامِ ليُوجِدَ ذَبذبةً في عَقيدةِ الْمُسْلِمينَ، فعنْ طريقِ الْمِيراثِ تارَةً، وعن طريقِ تَعَدُّدِ الزوجاتِ أُخْرَى، وعن دوافعِ القتالِ، وعن استرقاقِ الرَّقِيقِ، وعن وعن.
حتى وُجِدَ مِن أبناءِ الْمُسْلِمينَ مَن يَتَخَطَّى حُدودَ الشكِّ إلى التصديقِ، وأَخَذَ يَدْعُو إلى ما يَدْعُو إليه العَدُوُّ، وما ذاك كُلُّه إلاَّ حَصَادُ ونتائجُ الوَسواسِ الْخَنَّاسِ.
فلا غَرْوَ إذنْ أنْ تُجْمَعَ الصفاتُ الْجَليلةُ الثلاثُ: ربُّ الناسِ، مَلِكُ الناسِ، إِلَهُ الناسِ.
هذه وِجهةُ النظَرِ الأُولَى بينَ سُورَتَيِ الفَلَقِ والناسِ.
أمَّا الوِجهةُ الثانيةُ وهي بينَ سُورَةِ الناسِ ونَسَقِ الْمُصْحَفِ الشريفِ بقَوْلِه تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ (1) الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 1-7].
وفي هذه البدايةِ الكريمةِ بَثُّ الطُّمأنينةِ في القلْبِ الْمُعَبَّرِ عنها بالْحَمْدِ؛ عُنوانِ الرِّضَا والسعادةِ والإقرارِ للهِ بالرُّبوبيَّةِ، ثم الإيمانِ بالبعْثِ والإقرارِ للهِ بِمِلْكِ يومِ الدِّينِ، ثم الالتزامِ بالعِبادةِ للهِ وَحْدَه والالتجاءِ إليه مُستعيناً به، مُستهدياً الصراطَ المستقيمَ، سائلاً صُحْبَةَ الذين أَنْعَمَ عليهم.
ثم يأتي بعدَها مباشَرَةً في أوَّلِ سُورَةِ البَقرةِ: {ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]؛ أي: إنَّ الْهُدَى الذي تَنْشُدُه إلى الصراطِ المستقيمِ فهو في هذا الكتابِ لا رَيْبَ فيه، ثم بَيَّنَ الْمُتَّقِينَ الذينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عليهم بقولِه: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 3-4].
ومَرَّةً أُخْرَى للتأكيدِ أولئكَ لا سِوَاهُم على هُدًى مِن رَبِّكَ وأولئكَ هم الْمُفْلِحُونَ.
ثم تَتَرَسَّلُ السُّورَةُ في تقسيمِ الناسِ إلى الأقسامِ الثلاثةِ: مؤمنينَ وكافرينَ ومُذَبْذَبِينَ بينَ بينَ، وهم الْمُنافِقونَ.
ثم يأتي النداءُ الصريحُ، وهو أوَّلُ نداءٍ في الْمُصْحَفِ لعُمومِ الناسِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] ويُقيمُ البراهينَ على استحقاقِه للعِبادةِ، وعلى إمكانِ البَعْثِ بقولِه: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21-22].
وبعدَ تقريرِ الأصْلِ، وهي العقيدةُ، تَمْضِي السُّورَةُ في ذِكْرِ فُروعِ الإسلامِ، فتَشْتَمِلُ على أركانِ الإسلامِ كلِّها وعلى كثيرٍ مِن مَسائلِ الْمُعَامَلاتِ والْجِهادِ، وقَلَّ بابٌ مِن أبوابِ الفِقْهِ إلاَّ وله ذِكْرٌ في هذه السُّورَةِ، ويأتي ما بعدَها مُبَيِّناً لِمَا أُجْمِلَ فيها أو لِمَا يُذْكَرُ ضِمْنَها، وهكذا حتى يَنْتَهِيَ القرآنُ بكَمَالِ الشريعةِ وتَمَامِ الدِّينِ.
ولِمَا جاءَ في وَصْفِ الْمُتَّقِينَ الْمُهْتَدِينَ في أوَّلِ الْمُصْحَفِ أنهم يُؤْمِنُونَ بالغَيْبِ، ومنه الإيمانُ باليومِ الآخِرِ وما فيه مِن حِسابٍ وعِقابٍ وثوابٍ، أمورُ الغَيْبِ تَستلزِمُ اليَقينَ لتَرَتُّبِ الجزاءِ عليه ثَواباً أو عِقَاباً.
والثوابُ والعقابُ هما نَتيجةُ الفِعْلِ والترْكِ.
والفعْلُ والتَّرْكُ: هما مَنَاطُ التكليفِ؛ لأنَّ الإنسانَ يَمْتَثِلُ الأمْرَ رَجاءَ الثوابِ، ويَكُفُّ عن مُتَعَلِّقِ النهْيِ مَخَافَةَ العِقابِ.
فلَكَأَنَّ نَسَقَ الْمُصْحَفِ الشريفِ يُشيرُ إلى ضَرورةِ ما يَجِبُ الانتباهُ إليه، مِن أنَّ القرآنَ بَدَأَ بالْحَمْدِ ثَناءً على اللَّهِ بما أَنْعَمَ على الإنسانِ بإنزالِه، وإرسالِ الرسولِ صاحبِه به، ثم نَقَلَه مِن عالَمِ الدنيا إلى عالَمِ الآخِرَةِ، وهو الأَعْظَمُ قَدْراً وخَطَراً، ثم رَسَمَ له الطريقَ الذي سَلَكَه الْمُهْتَدُونَ أهْلُ الإنعامِ والرِّضَا، ثم أَوْقَفَه عليه ليَسْلُكَ سبيلَهم.
وهكذا إلى أنْ جاءَ به بعْدَ كمالِ البيانِ والإرشادِ والْهِدايةِ، جاءَ به إلى نِهايةِ هذا الصراطِ المستقيمِ، فاسْتَوْقَفَهُ ليقولَ له: إذا اطْمَأْنَنْتَ لهذا الدِّينِ، وآمَنْتَ باللَّهِ ربِّ العالَمِينَ، واعْتَقَدْتَ مَجِيءَ يَوْمِ الدِّينِ، وعَرَفْتَ طريقَ الْمُهْتَدينَ، ورأيتَ أقسامَ الناسِ الثلاثَةَ: مُؤمنينَ وكافرينَ ومُنافقينَ، ونِهايةَ كلٍّ منهم، فالْزَمْ هذا الكتابَ وسِرْ على هذا الصراطِ، ورَافِقْ أهلَ الإنعامِ، وجانِبِ المغضوبَ عليهم والضالِّينَ، واحْذَرْ مِن مَسْلَكِ المنافقينَ الْمُتَشَكِّكِينَ، وحاذِرْ كُلَّ الْحَذَرِ مِن مُوجِبِ ذلك كلِّه، وهو الوَسْوَاسُ الْخَنَّاسُ، أنْ يُشَكِّكَ في مُتَعَلَّقَاتِ الإيمانِ أو في استواءِ طَرِيقِكَ واستقامتِه، أو في عِصْمَةِ كتابِكَ وكمالِه، وكُنْ على يَقينٍ مِمَّا أنتَ عليه، ولا تَنْسَ خَطَرَه على أبَوَيْكَ مِن قَبْلُ، إذ هما في الْجَنَّةِ دارِ السلامِ ولم يَسْلَمَا منه ودَلاَّهما بغُرُورٍ، فحاذِرْ منه ولُذْ بِي كلَّمَا ألَمَّ بكَ أو مَسَّكَ طائفٌ منه، وكُنْ كسَلَفِكَ الصالِحِ إذا مَسَّهُمْ طائفٌ مِن الشيطانِ تَذَكَّرُوا فإذا هُمْ مُبْصِرونَ.
وقد عَلِمْتَ عَداوتَه لكَ مِن بَعْدُ، وعداوتُه ناشئةٌ عن الْحَسَدِ.
ولَكَأنَّ ارتباطَ السورتيْنِ لَيُشِيرُ إلى مَنْشَأِ تلكَ العَداوةِ وارتباطِها بِهَا التحذيرِ؛ إذ في الأُولَى: ومِن شَرِّ حاسِدٍ إذا حَسَدَ، فحَسَدَ الشيطانُ آدَمَ على إكرامِ اللَّهِ إيَّاه كما أَسْلَفْنَا.
والعدُوُّ الحاسِدُ لا يُرْضِيهِ إلاَّ زَوَالُ النِّعمةِ عن المحسودِ، ولَئِنْ كانَتْ توبةُ آدَمَ هي سَبيلَ نَجَاتِه؛ كما في قَوْلِه تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37].
فنجاتُكَ أيضاً في كَلِمَاتٍ تَستعِيذُ بها مِن عَدُوِّكَ برَبِّ الناسِ مَلِكِ الناسِ إلهِ الناسِ؛ لأنَّ الربَّ هو الذي يَرْحَمُ عِبادَه، ومَلِكَ الناسِ هو الذي يَحْمِيهِم ويَحْفَظُهم ويَحْرُسُهم، وإِلَهَ الناسِ الذي يَتَأَلَّهُونَ إليه ويَتَضَرَّعُونَ ويَلُوذُونَ به سُبحانَه). [تتمة أضواء البيان: 9/364-368]
قَالَ بُرْهَانُ الدِّينِ إِبْرَاهِيمُ بنُ عُمَرَ البِِقَاعِيُّ (ت: 885هـ) في تفسير سورة الناس: (مَقْصُودُهَا الاعتصامُ بالإِلَهِ الحقِّ مِنْ شَرِّ الخلقِ الباطنِ، وَاسْمُهَا دالٌّ على ذلكَ؛ لأنَّ الإِنسانَ مَطْبُوعٌ على الشَّرِّ، وَأَكْثَرُ شَرِّهِ بالمَكْرِ وَالخِدَاعِ، وَأَحْسَنُ مِنْ هذا أنَّها للاستعاذةِ مِنَ الشَّرِّ البَاطِنِ المَأْنُوسِ بهِ المُسْتَرْوَحِ إِليهِ، فَإِنَّ الوسوسةَ لا تَكُونُ إِلاَّ بِمَا يُشْتَهَى، وَالناسُ مُشْتَقٌّ مِنَ الأَنَسِ فَإِنَّ أَصْلَهُ أُنَاسٌ، وَهوَ أيضاً اضْطِرَابُ الباطنِ المُشِيرُ إِليهِ الاشتقاقُ مِنَ النَّوْسِ.
فَطَابَقَ حينئذٍ الاسمُ المُسَمَّى، وَمَقْصُودُ هذهِ السورةِ مَعْلُولٌ لمقصودِ الفاتحةِ الذي هوَ المُرَاقَبَةُ، وَهيَ شَامِلَةٌ لجميعِ عُلُومِ القرآنِ التي هيَ مُصَادَقَةُ اللَّهِ وَمُعَادَاةُ الشيطانِ بِبَرَاعَةِ الختامِ وَفَذْلَكَةِ النِّظَامِ، كَمَا أنَّ الفاتحةَ شَامِلَةٌ لذلكَ؛ لأنَّها بَرَاعَةُ الاستهلالِ وَرِعَايَةُ الجلالِ وَالجمالِ، فقد اتَّصَلَ الآخرُ بالأوَّلِ اتِّصَالَ العِلَّةِ بالمعلولِ وَالدليلِ بالمدلولِ وَالمثلِ بالمَمْثُولِ، وَاللَّهُ المَسْؤُولُ في تَيْسِيرِ السُّؤْلِ وَتَحْقِيقِ المَأْمُولِ، فإِنَّهُ الجَوَادُ ذو الطَّوْلِ، وَبهِ يُسْتَعَانُ، وَعليهِ التُّكْلانُ). [نظم الدرر: 8/611]